فصل: تفسير الآيات (1- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 19):

{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}
قلت: اختلف المفسرون في وجه المناسبة في هذه الآية، فقال بعضهم: ما تضمنه من الاقتدار على حفظه وإبقائه في قلبه، بإخراجه عن كسبه وإمساكه وحفظه، فالقادر على ذلك قادر على إحياء الموتى وجمع عظامها، وتسوية بنانها. ونَقَل الطيبي عن الإمام الفخر: أنه تعالى لمّا أخبر عن الكفار أنهم يُحبون العاجلة، وذلك قوله: {بل يُريد الإنسان لِيفجُر أَمامه} بيَّن أنَّ العَجَلة مذمومة، ولو فيما هو أهم الأمور وأصل الدين، بقوله: {لا تُحرِّكْ به لسانَك} فاعترض به، ليؤكد التوبيخ على حب العاجلة بالطريق الأولى. اهـ. وقيل: اعترض نزولُها في وسطِ السورة قبل أن تكمل، فوُضعت في ذلك المحل، كمَن كان يسرد كتاباً ثم جاء سائل يسأل عن نازلةٍ، فيطوي الكتابَ حتى يُجيبه، ثم يرجع إلى تمام سرده. انظر الإتقان.
يقول الحق جلّ جلاله: {لا تُحرِّكْ به}؛ بالقرآن {لسانَكَ لِتعجَلَ به}، وقد كان عليه الصلاة والسلام يأخذ في القراءة قبل فراغ جبريل، كراهة أن يتفلّت منه، فقيل له: لا تُحرك لسانك بقراءة الوحي، ما دام جبريل يقرأ، {لِتعجَلَ به}؛ لتأخذه على عجلة، لئلا يتفلّت منك، ثم ضَمِنَه له بقوله: {إِنَّ علينا جَمْعَه} في صدرك، {وقرآنه}؛ وإثبات قراءته في لسانك، فالمراد بالقرآن هنا: القراءة، وهذا كقوله: {وَلآ تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]، {فإِذا قرأناه} على لسان جبريل {فاتَّبعْ قرآنه} أي: قراءته، {ثم إِنَّ علينا بيانَهُ} إذا أشكل عليك شيء مِن معانيه وأحكامه.
الإشارة: لا تُحرِّكْ بالواردات الإلهية لسانك لِتَعْجَل به حين الإلقاء، بل تمهّل في إلقائه ليُفهم عنك، إنَّ علينا جمعه وقرآنه، أي: حفظه وقراءته، فإذا قرأناه على لسانك في حال الفيض فاتبع قرآنه، ثم إنَّ علينا بيانه. وفي الحِكم: (الحقائق ترد في حال التجلي جملة، وبعد الوعي يكون البيان، {فإذا قرأناه فاتبعْ قرآنه إنَّ علينا بيانه}). ولا شك أنَّ الواردات في حال الفيض تبرز مجملةً، لا يقدر على حصرها ولا تَفَهُّمِها، فإذا فَرَغَ منها قولاً وكتابة فتَدَبرها وجدها صحيحةَ المعنى، واضحةَ المبنى، لا نقص فيها ولا خلل، لأنها من وحي الإلهام، وكان بعض المشايخ يقول لأصحابه: إني لأستفيد مني كما تستفيدون أنتم، وكان الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه إذا فاض بالمواهب يقول: هلاَّ مَن يكتب عنا هذه الأسرار. إلى غير ذلك مما هو مُدوَّن عند أهل الفن. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (20- 40):

{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}
يقول الحق جلّ جلاله: {كلاَّ} أي: انزجروا عما أنتم عليه من إنكار البعث والفجور، {بل تُّحبون العاجلةَ وتَذَرون الآخرة} أي: بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل، وجُبلتم عليه، تَعْجلون في كل شيء، ولذلك تُحبون العاجلة مع فنائها وسرعة ذهابها، {وتذرون الآخرة} مع بقائها ودوام نعيمها. قال بعضهم: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى، لاسيما والعكس، الآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من طين يفنى. ومَن قرأ بالغيب فالكلام مع الكفرة.
{وجوه يومئذٍ ناضرةٌ} أي: وجوه كثيرة، وهي وجوه المؤمنين المخلصين، يوم إذ تقوم القيامة، بهية متهللة، يشاهَدُ عليها نَضْرة النعيم، {إِلى ربها ناظرةٌ} أي: مستغرِقة في مشاهدة جماله، فتغيب عما سواه. ورؤيته تعالى يوم القيامة متفاوتة، يتجلّى لكل واحد على قدر ما يطيق من نور ذاته على حسب استعداده في دار الدنيا، فيتنعّم كل واحد في النظرة على قدر حضوره هنا، ومعرفته.
ورؤيته تعالى جائزة في الدنيا والآخرة، واقعة في الدارين عند العارفين، وهذه الآية شاهدة لذلك، وهي مخصَّصة لقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] أي: لا تراه، على قولٍ. قال بعضُهم: هي واقعة للمؤمنين قبل دخول الجنة وبعده، حسبما ورد في الصحيح. وقوله في الحديث: «فيأتيهم الله في الصورة التي لا يعرفونها»، المراد بالصورة: الصفة، والمعنى: أنهم يرونه ثانياً على ما يعرفونه من صفاته العلية، وأهل المعرفة لا ينكرونه في حال من الأحوال.
والمقصود من الآية: تقبيح رأي حب العاجلة بذكر حسن عاقبة حب الآجلة، أي: كيف يذر العاقل مثل تلك المسرّة، التي ليس فوقها شيء، بدلاً من هذه اللذة الخسيسة الدنية، أم كيف يغتر بعروض هذا السرور وعاقبته الهلاك والثبور؟ انظر الطيبي. وحَمْل النظرعلى الانتظار لأمر ربها، أو لثوابها، لا يصح خلافاً للمعتزلة؛ لأنَّ الانتظار لا يُسْند إلى الوجه، وأيضاً: المستعمل بمعنى الانتظار لا يتعدّى ب {إلى}، مع أنه لا يليق الانتظار في دار القرار.
{ووجوه يومئذٍ باسرٍةٌ} أيك كالحة، شديدة العبوسة وهي وجوه الكفار. {تظن} أي: يتوقع أربابُها {أن يُفعل بها فاقِرة} أي: داهية عظيمة، تقصم فقار الظهر. {كلاَّ}، ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة، أي: ارتدعوا عن ذلك وتنبّهوا لِما بين أيديكم من الموت، الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلّدين، وذلك {إِذا بلغتِ} الروح {التراقيَ}، ولم يتقدّم للروح ذكر؛ إلاَّ أنَّ السياق يدل عليها، والتراقي: العظام المكتنفة لحفرة النحر عن يمين وشمال، جمع: ترقوة، أي: إذا بلغت أعالي الصدور، {وقيلَ مَن راقٍ} أي: قال مَن حضر المحتضر: مَن يرقيه وينجيه مما هو فيه من الموت؟ وهو من الرُقية، وقيل: هو من كلام ملائكة الموت، أي: أيكم يَرْقَى بروحه، ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟ من الترقِّي.
{وظنَّ أنه الفِراقُ} أي: تيقّن المحتضرُ أنَّ ما نزل به هو الفِراق من دار الدنيا ونعيمها التي كان يحبها {والتفَّتِ الساقُ بالساقِ} أي: التوت ساقاه بعضها على بعض عند موته. وعن سعيد بن المسيِّب: هما ساقاه حين تُلفّان في أكفانه، وقيل: شدّة فراق الدنيا بشدّة إقبال الآخرة على أنَّ الساق مَثَلٌ في الشدة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: هَمَّان: هَمٌّ الولد، وهَمُّ القدوم على الواحد الصمد. {إِلى ربك يومئذٍ المساقُ} أي: إلى الله وإلى حكمه يُساق، لا إلى غيره، إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار، وهو مصدر: ساقه مساقاً.
{فلا صدَّق} ما يجب به التصديق، من الرسول والقرآن الذي نزل عليه، أو: فلا صدّق ماله زكاه، {ولا صَلَّى} مافُرض عليه، والضمير فيها للإنسان المذكور في قوله: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3]، أو: إلى المحتضر المفهوم من قوله: {إذا بلغت التراقي}، وهو أقرب. {ولكن كذَّب} بما ذكر من الرسول والقرآن {وَتَولَّى} عن الإيمان والطاعة، {ثم ذهب إلى أهله يَتَمطَّى}؛ يبختر بذلك، وأصله: يتمطط، أي: يتمدّد؛ لأنّ المتبختر يَمُدُّ خطاه، فأبدلت الطاءُ ياءً؛ لاجتماع ثلاثة أحرف متماثلة، قال في النهاية: مِشْيةٌ مُطيْطاء، بالقصر والمد، أي: فيها تَبخْتُرن ويقال: مَطَوْتُ ومَطَطْتُ بمعنى مدَدْتُ، وهي من المُصَغَّراتٍ التي لم يُستعمل لها مُكَبَّرٌ. اهـ. أو: من المطا، وهو الظَّهْر فإنه يلويه.
{أَوْلَى لك فأَوْلَى} أي: ويل لك، وأصله: أولاك الله ما تكره، واللام مزيدة، كما في قوله: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] أو: أولى الهلاك لك فأولى، وقيل: هو مقلوب من الويل، وقيل: أولى بالعذاب وأحق به، وقيل: من الوَلى، وهو القرب أي: قاربه ما يهلكه. {ثم أَوْلَى لك فأَوْلَى}، كرر للتأكيد، كأنه قيل: ويل لك فويل لك ثم ويل لك فويل لك، وقيل: التكرير فيه، لأنه أراد بالأول: الهلاك الدنيوي وفي القبر والبرزخ ثم في القيامة، ثم في النار. {أيَحْسَبُ الإِنسانُ أن يُترك سُدىً}؛ أيظن الكافرُ أن يُترك مُهْمَلاً، لا يُؤمر ولا يُنهى ولا يُبعث ولا يُجازَى، {ألم يكُ نطفة مِن مَنِيٍّ تُمنى}؟ أي: تُراق في الأرحام، {ثم كان علقةً} أي: صار المَنِي قطعة دم جامد، بعد أربعين يوماً {فخَلَقَ فسَوّى} أي: فخلق الله منها بشراً سويًّا؟ {فجعل منه}؛ من الإنسان، أو: من المَنِي {الزوجين}؛ الصنفين {الذكرَ والأُنثى} لحكمه بقاء النسل، {أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى} وهو أهون من البدء في قياس العقول؟ كان عليه السلام إذا قرأها يقول: «سبحانك! بلى».
الإشارة: قال في الإحياء: اعلم أنَّ رأس الخطايا والمهِلكة هو حب الدنيا، ورأس أسباب النجاة هو: التجافي بالقلب عن دار الغرور.
ثم قال: واعلم أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلاَّ بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلاَّ بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلاَّ بدوام الفكر، ولا يحصل الأنس إلاَّ بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسَّر المواظبة على الذكر إلاَّ بإقلاع حب الدنيا من القلب، ولا يقع ذلك إلاّ بترك لذات الدنيا وشهواتها، ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات، ولا تنقمع الشهوات بشيءٍ كما تنقمع بنار الخوف المحرقة للشهوات. اهـ. على نقل صاحب الجواهر.
ومَن أسعده الله بلقاء شيخ التربية هان عليه معالجة النفس من غير تعب، في أقرب وقت، بحيث يُغيّبه عنها، ويزُجه في الحضرة، في أقرب زمان، فيدخل في قوله تعالى: {وجوده يومئذ ناضرةٌ إِلى ربها ناظرةٌ} فتحصل له النضرة والنظرة في الدنيا والآخرة فيفنى عن نظره حسُّ الكائنات وتظهر أسرار الذات الأزلية للعيان بادية، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى سواه، وينشد ما قال الشاعر:
فَلم يَبْق إلاّ الله لم يبقَ كائن ** فما ثَمَّ موصولٌ ولا ثَمَّ بائِنُ

بِذَا جاء بُرهانُ العَيانِ فما أرى ** بِعَيني إلاَّ عينَه إذْ أُعايِنُ

قال القشيري: قوله تعالى: {وجوه يومئذٍ ناضرةٌ...} إلخ، يُقال: هذه الآية دليل على أنهم بصفة الصحو، ولا يداخلهم حيرة ولا دهش، لأنَّ النضرة من أمارات البسط، والبقاء في حال اللقاء أتم من اللقاء، والرؤية عند أهل التحقيق تقتضي بقاء الرائي.. إلخ كلامه. {ووجوه يومئذ باسِرة} وهي وجوه أهل الغفلة، المحجوبين في الدنيا عن شهود الحق، تظن أن يُفعل بها داهية فاقرة، لِما فرّطت في جنبه تعالى من عدم التوجه إليه، كلاَّ، فلترتدع اليوم، ولتنهض قبل فوات الإبان، وهو إذا بلغت الروحُ التراقي، وقيل: مَن راقٍ؟ والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق، فيحصل الندم، وقد زلّت القدم، فلا صدّق بوجود الخصوصية عند أربابها، فيصحبهم ليزول عنه الغين والمرض، أي: غين الحجاب ومرض الخواطر والشكوك، ولا صلَّى صلاةَ القلوب، ولكن كذَّب بوجود الطبيب، وتولِّى عنه مع ظهوره، ثم ذهب إلى هواه ودنياه يتمطى، أَوْلَى لك فأَوْلى، أي: أبعدك الله وطردك، ثم أَوْلَى لك فأوْلى، أيحسب الإنسانُ أن يتركه الحقُ سدىً، من غير أن يُرسل له داعياً يدعوه إلى الحق؟ ألم يك نطفة مهينة، ثم صوَّره ونفخ فيه من روحه، أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى؟ أي: القلوب والأرواح الميتة، بالعلم والمعرفة، بلى وعزة ربنا إنه لَقادر، «مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وكان الله على كل شيء مقتدراً» وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله.

.سورة الإنسان:

.تفسير الآيات (1- 3):

{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}
يقول الحق جلّ جلاله: {هل أتى على الإِنسان}، والاستفهام للتقرير والتعريف، أو بمعنى قد، أي: قد مضى على الإنسان قبل زمانٍ قريبٍ {حِينٌ من الدهر} أي: طائفة محدودة كائنة من الزمن الممتد {لم يكن شيئاً مذكوراً} بل كان شيئاً منسياً غير مذكور بالإنسانية أصلاً، كالعنصر والنطفة وغير ذلك. والجملة المنفية: حال من الإنسان، أي: مضى عليه زمان غير مذكور، أو صفة ل {حين} على حذف العائد، أي: لم يكن فيه شيئاً، والمراد بالإنسان: الجنس.
والإظهار في قوله: {إِنَّا خلقنا الإنسانَ} لزيادة التقرير، أو: يراد آدم عليه السلام، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة، فقد أتى عليه حين من الدهر، وهو أربعون سنة مصوَّراً قبل نفخ الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف، وفي رواية الضحاك عنه: أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون، فأقام أربعين سنة، ثم من صلصال، فأقام أربعين، ثم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. اهـ. قلت: جمهور المؤرخين أنَّ آدم صُوِّر في السماء، ويقال: كان على باب الجنة، تمر به الملائكة وتتعجب منه، ويمكن أن يكون صُوّر في الأرض، ثم رُفع إلى السماء، القدرة صالحة. والله تعالى أعلم بما كان.
وقال بعضهم: المراد بالإنسان الأول: آدم عليه السلام، وبالثاني: أولاده، أي: خلقنا نسل الإنسان {من نُطفةٍ أمشاجٍ} أي: أخلاط من: مشجت الشيء: إذا خلطته ومزجته، وصف به النطفة؛ لأنها مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة، ولكل منهما أوصاف مختلفة، من اللون، والرقّة، والغلظ، وخواص متباينة، فإنَّ ماء الرجل أبيض غليظ، فيه قوة العصب، وماء المرأة أصفر رقيق، فيه قوة الانعقاد، وتخلّق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمِن ماء المرأة. قال القرطبي: وقد رُوي هذا مرفوعاً. وقيل: إذا علا ماءُ الرجل أشبهه الولد، وإذا علا ماء المرأة أشبهها. وقيل: إذا سبق أحدهما فالشبه له. وقيل: {أمشاج} مفرد غير جمع، كبَرْمة أعشار، وثوب أخلاق. وقيل: أمشاج: ألوان وأطوار فإنَّ النطفة تصير علقة ثم مضغة إلى تمام الخلقة. وقال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط؛ لأنها ممتزجة من أنواع الأغذية من نبات الأرض، فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة. اهـ.
{نبتليهِ} حال، أي: خلقناه مبتلين له، أي: مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي في المستقبل، {فجعلناه سميعاً بصيراً} ليتمكن من سماع الآيات التنزيلية، ومشاهدة الآيات التكوينية، فهو كالمسبب عن الابتلاء، فلذلك عطف على الخلق بالفاء، ورتّب عليه قوله: {إِنَّا هديناه السبيلَ}؛ بيَّنَّا له الطريق، بإنزال الآيات، ونصب الأدلة العقلية والسمعية، {إِمَّا شاكراً وإِمَّا كفوراً}: حال من مفعول {هديناه}، أي: مكّنّاه وأقدرناه على سلوك الطريق الموصل إلى البُغية، في حالتي الشكر والكفر، أي: إن شكر أو كفر فقد هديناه السبيل في الحالين، فإن شكر نفع نفسه، وإن كفر رجع وبال كفره عليه، أو: حال من {السبيل}، أي: عرفناه السبيل، إمّا سبيلاً شاكراً، وإمّا سبيلاً كفوراً.
ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز، والمراد: سالكه.
الإشارة: قد أتى على الإنسان حين من الدهر، وهو قبل وقوع التجلِّي به، لم يكن شيئاً مذكوراً، بل كان شيئاً معلوماً موجوداً في المعنى دون الحس، غير مذكور في الحس، فلمّا وقع به التجلِّي صار شيئاً مذكوراً، يذكر بالخطاب والتكليف، ويمكن أن يكون الاستفهام إنكارياً، أي: هل أتى عليه زمان لم نذكره فيه، بل لم يأتِ عليه وقت إلاَّ وكان مذكوراً لي. ويُقال: هل غفلتُ ساعة عن حفظك؟ هل ألقيتُ ساعة حبلك على غاربك؟ هل أخليتك ساعة من رعاية جديدة، وحماية مزيدة. اهـ. من الحاشية.
ثم بيَّن كيفية التجلِّي به فقال: {إنَّا خلقنا الإنسان} أي: بشريته {من نُطفة أمشاج} أي: من نطفة من أخلاط الأرض، فلذلك كانت تنزع إلى أصلها، وتخلد إلى أرض الحظوظ والهوى، نبتليه بذلك، ليظهر الصادق في طلب الحق بمجاهدة نفسه في إخراجها عن طبعها الأصلى، والمُعرض عن الطلب باسترساله مع طبعها البشري، ويقال: خلقته من أمشاج النطفتين فينزع طبعُ الولد إلى الإغلب منهما، فإن غَلَبَ ماء الرجل نزع إلى طبع أبيه، خيراً كان أو شرًّا، وإن غلب ماء المرأة، نزع إلى طبع أمه كذلك، ابتلاء من الله وقهرية، فلابد أن يغلب الطبع، ولو جاهد جهده، ولذلك قال عليه ا لسلام: «إذا سمعتم أنَّ الجبال انتقلت فصَدِّقوا، وإذا سمعتم أنَّ الطباع انتقلت فلا تُصَدِّقوا» وفائدة الصُحبة والمجاهدة: خمود الطبع وقهر صولته، لا نزعه بكليته، فيقع الرجوع إلى الله من الطبع الدنيء، ولا يقدح في خصوصيته إن رجع إلى الله في الحين، ولذلك تلونت أحوال الأولياء بعد مجاهدتهم ورياضتهم. والله تعالى أعلم. فجعلناه سميعاً بصيراً، ونفخنا فيه روحاً سماوية وقدسية، تحن دائماً إلى أصلها، فمنها مَن غلبت عليه النطفةُ الطينية، فأخلدت بها إلى الأرض، فبقيت مسجونة في هيكلها، محجوبة عن ربها، ومنها: مَن غلبت روحانيتها على الطينية، فعرجت بها إلى الحضرة القدسية، حتى رجعت إلى أصلها وإلى هذا أشار بقوله: {إنا هديناه السبيل} أي: بيَّنَّا له الطريق الموصل إلى الحضرة، فصار إمّا شاكراً بسلوكها أو كافراً بالإعراض عنها، وعدم الدخول تحت تربية العارف بها.